لم يروا أبداً في حياتهم الماء النقي
فقط يدفعهم عطشهم إلى البركة الآسنة العكرة يتجرعون منها ما يروي عطشهم ثم يبصقون من أفواههم الطين
حتى ذلك اليوم الذي عاد فيه ذاك الفتى مهرولاً يصيح في القبيلة
لقد وجدت ماء
نظر الجميع له كأبله
و ما حاجتنا إلى الماء و لدينا البركة؟
أنتم لا تفهمون لقد وجدت عين ماء
ماء حقيقي
لم أرى مثله من قبل
شفاف ليس له لون العكارة و الطين
و لا رائحة العطن و لا طعم الأسن
لا تبصق بعد شربه
إنه ما نحتاج إليه
يروي العطش
لا أستطيع أن أصف لكم أبداً كيف كنت أشعر و أنا أشربه
فقد تعالوا معي لتروه
لن نشرب سوى من البركة
إنها ما عشنا عليه طوال أعمارنا و لم تصبنا بسوء
ما الذي يدرينا لعل ماؤك يقتلنا، أو يسلبنا بأسنا و قوتنا، أو يحيلنا مسوخاً
كيف هذا ألا ترون أن بركتكم آسنة راكدة الماء مليئة بالأوساخ و الطين ألا ترون أن بعض الحيوانات تبول بها حتى!
ألا تمتليء أفواهكم بالطين بعد أن تشربوا منها و تسعلون مراراً حتى تخرجوا طينها من أجوافكم؟
ألا تصبغ طعامكم بسواد طينها و تملؤه بعطن رائحتها و مرارة طعمها؟
لقد رأيت العين و شربت مائها و عرفت أنه الماء الطبيعي الحقيقي الذي نحتاج إليه
أتعرفون..أظن أن البحيرة ربما كان ماؤها نقياً هكذا في بداية الأمر ثم انقطع عنها مصدرها و ركدت و اختلط بماؤها الطين و الأوساخ حتى صارت هكذا
و لذلك نشرب منها ليروي عطشنا ماؤها الأصلي
و لكننا بهذا نشرب مع مائها وسخها و لا نستطيع لهما فصلا
و الآن فقد عرفنا عين ماء طبيعي
بدون وسخ أو طين
أفلا ننصرف إليه؟
في البداية لم يستمع للفتى سوى قلة قليلة قرروا تجربة الماء الجديد
أما باقي القبيلة فظل حنقهم يزداد عليه و على من ساروا معه
كيف يتركون بركتنا و يرتوون من عينهم؟
كيف لا يأبهون برفضنا لمائهم؟
ماذا لو ضرنا ماؤهم؟ أو أصابتنا عدوى أمراض جلبها لهم؟
و صاروا يؤذون أصحاب العين
و لكن بمضي الأيام و دوران الزمان انقلب الوضع و صار الجميع تقريباً يأتون العين، و صارت البركة مهجورة لا يردها سوى بضع نفر من عجائز القبيلة الذين ظلوا على قديم عاداتهم. لكن بموتهم لم يبق أحد يشرب من البركة أبداً.
و بعد زمن جفت البركة تماماً، و لم يبق من أثرها سوى حفرة عميقة.. و تحولت البركة الآسنة إلى قصة تحكيها الجدات للصغار.
حتى جاء زمن ادعى فيه أحد الرجال أن إذابة بعض الطين في الماء يجعله يقوى البدن و يزيل الدرن و يقي من المرض!
فصاروا إذا مرض أحدهم.. سقوه ماءاً بالطين. و إذا أصاب الدرن أحدهم .. اغتسل بالماء و الطين.
ثم إنهم توسعوا في استخدام الماء الممزوج بالطين حتى صاروا يحنكون به المولود، و يسقون به العرسان، و يقدمونه للضيف، و صار ذوي السلطان من أهل القبيلة لا يشربون سوى الماء بالطين و اختصوا بتحضيره عمالاً يجلبون الماء من العين و الطين من قاع البحيرة ثم يخلطونهما خلطاً جيداً.
و لما كانت العين بعيدة و جلب الماء منها مجهد؛ فقد قرروا أن يجلبوا كميات كبيرة من ماء العين لتخزينه في البركة، و هكذا يصير الماء قريباً منهم و يصبح كله مخلوط بالطين بلا عناء، و لا تصير هناك حاجة لجلب الماء من العين إلا كل بضعة أسابيع.
و هكذا صاروا لا يشربون سوى ماء البركة العكرة العفنة!
تعليقات
إرسال تعليق