الصراحة |
الصراحة حلوة.. هكذا يحب الكثير من الناس أن يبدأوا حديثهم. لكن إلى أي حد يمكن اعتبار هذه العبارة واقعية وصحيحة؟
في رأيي أن الصراحة بشعة.. بل ربما تكون من الأشياء الأكثر بشاعة في هذا العالم.
البشر مخلوقات ضعيفة للغاية، هشة، لا تقوى في معظم الأحيان على تحمل الصراحة، ومواجهة العالم بصورته الحقيقية.
ربما ندعي جميعاً أننا نحب الصراجة، ونسعى لمعرفة الحقيقة، ولا نستاء إذا ما صارحنا الآخرون بحقيقة رأيهم فينا، وما يكنون لنا في صدورهم.
لكن كل هذا محض ادعاء. إننا لا نقوى على مواجهة الحياة بصورتها الحقيقية، ومن المستحيل أن نجالس الناس أو نؤاكلهم أو نشاربهم أو حتى أن نعيش معهم في نفس العالم إذا ما تجلت في أذهاننا أفعالهم المشينة، بل إننا لا يمكن أن نحتمل أنفسنا إذا ما حضرت ذكريات أفاعيلنا القبيحة في ذهننا. لسوف ينفجر رأسك لو استحضرت في ذهنك كل أفعالك المشينة، كل كذباتك، كل خطاياك وكل هفواتك، نواياك السيئة وأفكارك المنحرفة.. لا يوجد إنسان يستطيع أن يحتمل كل هذا
التاريخ الوهمي والواقع الوهمي أيضاً
لابد أن هناك مصطلح بعلم النفس يعبر عن هذا المفهوم، وهو ما تلجأ إليه النفس البشرية من تمجيد لماضي الإنسان أو ماضي عائلته بحيث يستطيع الإنسان أن يشعر بالفخر والاعتزاز بنفسه.تجد أحدهم يتحدث طوال الوقت عن جده الذي كان يملك نصف هذه المدينة، وكل عماراتها، ويتحكم في السياسيين، ويوفر الوظائف للشباب. رغم إن ذلك لم يحدث إطلاقاً.. لكن هذا الرجل لا يكذب، أو هو لا يعي أنه يكذب، كل ما في الأمر أنه ادعى هذا الادعاء ذات مرة من عدة سنوات أمام بعض القوم، فأعجبه شعور العزة والفخار الذي غمر نفسه عندما قال هذا الكلام، هنا يقوم اللاوعي بدوره في وضع هذه الذاكرة مكان الذاكرة الحقيقية لأنها أجمل، لأنها تمنح الإنسان شعور بالرضا والفخر والاعتزاز، هكذا عنما يفكر هذا الرجل في جده في المرة التالية، تبرز هذه الادعاءات إلى وعيه كذكريات، لا ككذبات وادعاءات .. وعندها سيسردها على كل من يعرف وكل من لا يعرف ليحصل على ذلك الشعور اللذيذ بالعزة والمجد والفخار.
ويحدثك أجبن الناس عن مواقف الإقدام والشجاعة التي أقبل عليها عندما كان شاباً أو صبياً، فيحكي لك كيف أنقذ فتاة من الغرق في أحد شواطئ الاسكندرية صيف ١٩٨٠ رغم أنه حتى الآن لا يستطيع العوم. ويحدثك عن العصابة التي حاولت السطو عليه فمزقها شر ممزق، ويحدثك عن الكثير من المواقف التي لا يمكن أن تكون صحيحة إلا في ذهنه.
الأمر ليس مقصوراً على تزييف الماضي، بل الحاضر أيضاً قابل للتزييف، ولا بد أنك تعرف الكثير من الأشخاص الذين يعتقدون عن أنفسهم أو أعزائهم الكثير من الأشياء الغير صحيحة، فأكذب الكاذبين ربما يعتقد أنه صدوق، واللص يعتقد أنه طاهر اليدين، وأن ما يفعله ليس سرقة، وأن اللصوص الحقيقيون هم من يفعلون كذا وكذا، والمرتشي يعتقد أنه طاهر اليدين، وأن ما يتقاضاه هو نظير خدمات، أو هو هدية، أو إكرامية. وتلك الأم التي مات زوجها وترك لها طفل أسرفت في تدليله حتى صار شابا عربيدا، لا تسمح لنفسها بمواجهة الواقع، وهي تعتقد أن ابنها زينة الشباب، وأنه أحسن من غيره، رغم أن الحقيقة أنه ربما كان أسوأ شاب في المدينة، لكن كيف لها أن تصارح نفسها بتلك الحقيقة، ستموت كمداً لو صارحت نفسها بذلك، بل إنها قد تصب جام غضبها على من يحاول الإشارة إلى تلك الحقيقة، ليس حرصاً منها على ولدها، بل حماية للحقيقة المزيفة التي تبقيها قادرة على العيش.
كما ترى، الأمر لا يقتصر على عدم إخبار مريض القلب بخبر إصابة ابنه في حادثة، بل يبدو أننا جميعاً مصابون بما هو أشد من مرض القلب، إنه أهمية التقدير الذاتي.
يبدو وكأن النفس البشرية يصعب عليها التعامل مع الحقيقة، أو قل هي لا تحب الحقيقة، خاصة إذا كانت تلك الحقيقة هي حقيقة الإنسان نفسه، وحقيقة ماضيه وتاريخه، وحقيقة أهله وأصله، وحقيقة أقربائه وأعزائه.
العتاب والسماح والعفو والتغافل والنسيان
قالوا أن العتاب يدل على القرب، وأننا إذ نعاتب فإن هذا يدل على قرب المعاتب من قلوبنا، وأظن ذلك صحيحاً.. لكن ماذا عن من يعفو، ومن يسامح، ومن يتغافل، ومن ينسى؟أرى أن الفرق بين هؤلاء هو فرق في الطاقة النفسية، فالأضعف إذا ما رأى أو سمع من الآخر ما يسوؤه أو يحزنه فإنه يلجأ إلى رد الإهانة، أو تغيير لغته مع هذا الشخص بحيث تكون أكثر حدة أو خشونة دون إبداء أسباب، أو إضمار الإهانة في نفسه بحيث تؤلمه كلما تذكرها وتوغر قلبه على الآخر. ومثل هذا علاجه في العتاب، إذ به يلقي بهذا الحمل عن قلبه، ولا يظل في قلبه شيء من الآخر.
والأقوى من هذا من يستطيع العفو دون عتاب، ودون انتظار لاعتذار، لكن الشخص الذي يهم بالعفو قد لا يستطيع أن يتخلى عن فكرة أنه ظلم أو أسيئت معاملته، لهذا فهو يعفو، ما يعني أنه في موقف القوة، ويعني أن عفوه هذا فيه شيء من التفضل، لذلك فالسماح أرقى، إذ فيه ينزع الإنسان عن نفسه التفضل. لكن الأرقى من كليهما هو التغافل، إذ فيه ينكر الإنسان على نفسه وقوع الإساءة أو الإهانة من قبل الطرف الآخر، وهو بذلك يبرئ الطرف الآخر، فلا يبقى في قلبه شيء منه، ويرحم نفسه من تفاعلات النفس ووساوس الشيطان، ولا يكون بقلبه شيء من أحد.
تظل درجة واحدة -في رأيي- أرقى من التغافل، وهى النسيان، إذ في التغافل أنت تعي وقوع الإساءة لكنك تفضل أن تتغافل عنها، فأما النسيان فإنه يسمح لك بتناسي الموقف تماماً فلا يظل في قلبك منه شيئا.. وهذا لا يقدر عليه إلا قليل القليل.
تعليقات
إرسال تعليق