الإنسان ساعة المنى والحلم يطمح في كل شيء. يحلم أن يحصد مال الدنيا ومتعها، يتزوج أجمل النساء، يسكن أبهى القصور، يصاحب علية القوم، يتبوء رفيع المكانات والمناصب، يكون صاحب رأي مسموع. تارةً أخرى يحلم أن يرضي ضميره ويشبع روحه بأن يؤدي المتطلبات الروحية والدينية، يشبعها ويزيد، يحفظ القرءان، يدرس العلوم الدينية، يجتهد في العبادات فروضها ونوافلها، يسعى في الخيرات، ينفق من ماله حتى يفوق أكابر الباذلين، وأكثر وأكثر. تارة أخرى يحلم أن يرى نفسه يغير العالم بعمله، كأن ينتج من الاختراعات ما يبهر البشر ويغير حياتهم ويحيل العالم إلى مكان أفضل، أو ينتج عملاً أدبياً أو فنياً تتحاكى به الأجيال ويكون له أثر عظيم وتأثير بليغ في وجدان البشر أجمعين.
وهكذا، لا يسأم الإنسان من دعاء الخير أبداً. فهو يريد كل شيء، يريد الأفضل والأكمل في كل الاتجاهات. هذا شيء راسخ في وجداننا، في أعماق نفوسنا، راسخ في لا وعينا. لكنك إذا ما سألت جارك، أباك، أخاك، صديقك عما يريد أو يريدون في هذه الحياة، فإنه سيجيبك بأن جل ما يريده هو السلامة والستر!
كيف يكون هذا؟ وما مصدر هذا التضارب بين منى النفس الخفي، وبين ظاهر القول وظاهر الإرادة؟
ويبدو أن استكشاف هذا الأمر ليس باليسير أبداً، لكن لا بأس بالمحاولة.
يبدو للوهلة الأولى أن للأمر علاقة بثقافة المجتمع ومعتقده وهمته، وتفاعل الفرد مع هذه الثقافة. إذ تغرس ثقافتنا في وجدان الفرد قيم مؤداها أن الصلاح والنقاء مرتبطون لا محالة بقلة متاع الدنيا بين اليدين، إذ الناجح بالضرورة وصولي، والغني لص، والتقي داعر ذو عين خائنة، والحالم غر ساذج. والسلامة كل السلامة في أن تكون عادياً كما أواسط قومك، فخير الأمور الوسط، والعاديون هم أهل البلد، هم من رفضوا المفارقة إلى غرور الحياة الدنيا، هم ملح هذه الأرض، ثوبهم من ثوبنا. والحالمون السذج لن يفيقوا إلا عندما تذل أقدامهم فيسقطون من حالق أحلامهم، حينها يعرفون أي منقلب انقلبوا. حين لن يكون من نصيبهم سوى التعيير والتأنيب والسخرية، وأن تحكى قصص فشلهم في الآفاق لعلهم يكونوا عبرة لم اعتبر. عبرة لكل من يفكر في أن يخرج من الثوب، ويأخذه الطموح إلى غير المطروح.
تتفاعل هذه القيم المجتمعية بداخل الفرد فتشكل قوة نفسية اجتماعية تطرق أذن ذهنك بقوة كلما فكرت أن تطمح في تغيير، تقول لك ابق هنا، أنت لا تصعد علياء مجد وإنما حالق أهوال، لن تلبث أرضه تمور من تحت قدميك فتتردى هاوياً إلى أرضك الأصلية بقوة الجاذبية، تعود إلى أرضك مرغماً ومهشماً. فالسلامة السلامة.
ترى هنا قوتان تعتملان بنفسك، وأيهما يغلب؟ أنت من تحدد. ولعلنا هنا نتذكر من تراث الهنود الحمر قصة الذئبين الذين يتصارعان داخل كل إنسان، أحدهما هو الخير والآخر هو الشر. تقول لنا القصة أن النصر حليف الذئب الذي تطعمه. وأظن أن نفس الأمر ينطبق على كل القوى والقيم المتعاركة بداخل الإنسان، وينطبق على هذا الموقف الذي نحاول معالجته. فعند معظم الناس ينتصر ذئب توخي السلامة والسير مع القطيع، إذ غذاؤه وفير. وأكبر مغذياته هو الخوف من الفشل الذي قد يواجه من يحاولون التغيير ومن يجرؤون على الطموح. إذ الأمر متعلق بالكرامة. فأنا لو أعلنت أنني أريد كذا وكذا، أنا ألزم نفسي بذلك ولابد أن أحققه وإلا لازمتني وصمة الفشل، وصرت مثالاً يستخدمه الداعون إلى إيثار السلامة. فالأحوط إذن ألا أحاول وألا أجرب.
لكن المختلفون الحالمون يعرفون كيف يوفرون الطعام الأوفر لذئب التغيير والأحلام ليضمنوا له النصر. يعرفون أن الأمل غذاء مبارك، وأن الخوف من الفشل ليس له مكان بين جوانحهم، فلو خاف الإنسان من الفشل لما كانت البشرية صنعت أي حضارة.
تعليقات
إرسال تعليق