وحدة |
لكم أنت لطيفة يا عبير، نعم أعترف، لا تعدي هذا غزلاً فلست عليه قدير، ولو أنني حاولت التغزل لوجدتِ أن ما أقول كلاماً ثقيلاً مريراً كقهوة شيخ في السبعين أضناها حرق حبوبها وغلي مائها فصارت لا تستساغ إلا في فمه.. وأنت يا عبير غضة بريئة لا تناسبك قهوة الشيوخ، إنما يناسبك عصير الفاكهة أو رحيق لأزهار النادية.
هل تفهمين الآن يا عبير؟
.....
ما أقول هو أنني قد شخت قبل الأوان، فصرت أرى ما لا ترين، وصرت ترين ما لا أرى. أنت تريدين رفيقاً لرحلتك، يشاركك الصعاب والمتع، يكون معك في الأفراح والأحزان، وأنا تقاربت عندي تلك الأشياء فصرت لا أجد الفرق بينها بنفس الحجم الذي ترين.
ما أقول هو أن الموج حال بيننا، وصار الفراق هو الحل الوحيد.
أعرف أنك تحبينني، وأنا كذلك أجدك كائناً بريئاً لا يمكن لمخلوق ألا يحبه، لكنني أعرف أيضاً أنك لا تحبينني كما أنا بالفعل، إنما تحبين الصورة التي ارتسمت في مخيلتك عني، تحبين الشكل الذي انطبع في ذهنك، تحبين آخراً ليس أنا على الإطلاق.
تقولين أنك تعرفينني حق المعرفة، تعرفينني مثل معرفتي لنفسي، وأنا أقول يا صغيرتي هل تظنين أنني أعرف عن نفسي الكثير؟
إنما أنا مثلك أعرف عن نفسي أشياءً وتخفى عني أشياء، نعم أعرف كل خفاياي وأسراري، أعرف صدقي وكذبي، أعرف أمانتي وخيانتي، لكن عيني تريان العالم ولا تريانني، أذناي تسمعان أصوات الناس ولا تسمعان كلامي، عقلي قد يقلب ويتأمل أراء الآخرين لكنه قليلاً ما يتأمل أرائي.
وهكذا الناس جميعاً.. قد يظن بعضنا أنه يعرف نفسه لكنه واهم، قد يظن بعضنا أنه يعرف الآخرين لكنه واهم.
.....
هل تعرفين؟
لو أنه قدر لنا الاقتراب والوصل الطويل لصدمتِ صدمات متتابعة.. نعم ستسألينني كيف صرت كذلك؟ وسأرد بأنني كنت دوماً كذلك.. لكنك أنت لم تدركي ذلك حين كنت بعيداً.
يا عبير.. أنا صورة بعيدة ترين خيالها ولا تدركين الدقائق والرتوش.. يحاول ذهنك الغض أن يكملها فتصير صورة أخرى مغايرة.
تقولين اقترب حتى أراك.. أقول وكيف لي الاقتراب.. إنما أنا أسير على جسر كلما عبرت فوق لبنة منه سقطت فلا أجد سوى التي تليها موضعاً لقدمي فتسقط، فأنتقل إلى التي تليها.. خبريني كيف يا عبير أعود؟
لا أعرف ماذا دهاني لأصير ذلك الذي أنا هو الآن.. لكن السجايا تتحرك فينا دون أن ندري فتشكلنا... أو هي خيارات تتراكم وتتقاطع فتشكلنا.. لكنه طريق ذو اتجاه واحد، لا يتيح خيار الرجوع.
هكذا تصير الوحدة رفيق الطريق.
لا لست أعشق الوحدة لهذا الحد، هي فرض لا خيار.
"لولا وقوفي على جَبَل ٍ
لفرحتُ بصومعة النسر : لا ضوء أَعلى !
ولكنَّ مجداً كهذا المُتوَّجِ بالذهب الأزرق اللانهائيِّ
صعبُ الزيارة : يبقى الوحيدُ هناك وحيداً
ولا يستطيع النزول على قدميه
فلا النسر يمشي
ولا البشريُّ يطير
فيا لك من قمَّة تشبه الهاوية
أنت يا عزلة الجبل العالية"
تقولين وهل خلقت أنت من طينة أخرى غير بقية البشر؟ فأقول ليس منبع الأمر في الطينة.. لكنه في تشكلها..
هل تعرفين.. كثيراً ما أتمنى أن أصير ككل الناس أتابع مباراة رياضية بشغف وأسعد لأن فريقي انتصر، أخاصم وأصالح، أسير كما يسيرون وأقف حين يقفون.. لكنني كلما حاولت أن أسير في الزحام أجدني قد خرجت منه رغماً عني، يطردني الزحام لأنه يعرف أهله ويعرف كيف يميز الغرباء.. مهما حاولت الاستمتاع بما يستمتعون به لا أستطيع.
ألم أقل لك يبقى الوحيد هناك وحيداً؟
لقد صارت الوحدة يا عبير هي رفيقي في الطريق.. فصرت أشعر بالوحشة إذا ما فقدتها، وصار أنسي أن أظل وحيداً.
قولي لي أين أنت في هذه الصورة الخالية؟
قولي لي كيف أجرؤ على إقحامك في هذا الطريق الموحش النائي، أو كيف أتركك حيث أنت وأمضي حيث أنا؟
...
لا يا عبير.. لا تظني أنني أدعي عظمة، لا تظني أن ما أقول هو أنني صرت في درجة أرفع من البشر.. فما مثلي ومثل من هم مثلي إلا كالمشرد الذي ترينه في الشارع يلتقط أشياءً من الطريق يكومها في جوال .. لا يدري أحد ماذا يلتقط ولا يدري أحد ماذا يفعل بما يلتقط.. إنه في عالمه وحيد.
هل ترين في ذلك الشخص شيئاً من الرفعة أو العظمة؟
وهل ترين فيمن سكن الجبال وانقطع عن العالم واكتفى بورق الشجر زاداً وبندى الفجر شراباً عظمة؟ أو هل ترين في المجنون الذي صار يهرف بما لا يفهم الناس، ويأتي من الأفعال ما ينافي الذوق عظمة؟
لست عظيماً يا عبير، ولا أدعي عظمة.. لكنني غريب، مختلف.. كذلك الشريد..
إلى لقاءٍ.. يا عبير.
تعليقات
إرسال تعليق