- يا عم ناصر.. هذه هي المرة الثالثة التي يتعطل فيها خط الإنتاج بسببك. لم أعد أفهم .. هل أنت عامل على الخط، أم أن شخصاً ما قد أولى إليك مسئولية تعطيله طوال الوقت!
يرفع عم ناصر حاجبيه لأعلى حتى ينضغط جلد جبهته مشكلاً خطوطاً عرضية، ثم يحرك رأسه وعينيه كأنما يبحث عن شيء ما في الغرفة، ثم يركز بصره على المهندس فيما عينيه بارزتان وهو يجيبه.
- يا بشمهندس.. هل أنا مخطئ لحرصي على مصلحة المصنع؟ وكيف لي أن أسكت عن الحال المائل؟ هؤلاء العمال لا يفقهون شيئاً على الإطلاق.. ولو كان الأمر بيدي لرفتهم فوراً بلا تردد.
- دعنا من العمال، أنا أتحدث عنك أنت .. لم تحرص على تعطيل الإنتاج باستمرار كأن هذا هو عملك الوحيد؟
يرفع عم ناصر إحدى يديه ليحك ما تبقى من شعر رأسه، ويجيب بنفاذ صبر.
- كل ما في الأمر أنني حريص على المصنع وعلى جودة المنتج، هؤلاء الجهلة لا يفتأون يتسببون في خروج منتجات معيبة، وكل هذا يتراكم فوق رأس المصنع.
لقد رأيت بعيني كيف يعيد المهندس عماد ربع المنتجات التي تخرج من الخط لأنها معيبة، وكل هذا بسبب هؤلاء الأوغاد المساطيل الذين قضت عليهم المخدرات والجري وراء الفتيات.. إن أحدهم لا يبدأ يومه إلا بتعاطي الترامادول، ولا ينهيه إلا بسيحارة محشوة بالبانجو أو الحشيش.. هل تتوقع من مثل هؤلاء إنتاج؟.. إنه جيل لا يعلم بحاله سوى الله.. اللهم احفظنا.
يعاود المهندس سؤاله بنفاذ صبر باد ومحاولة لكظم الغيظ.
- يا عم صابر.. أنت رجل كبير وأنا أحترمك وأقدرك.. لكن من قال لك أنك مسئول عن العمال الآخرين.. أنت مسئول عن عملك أنت فقط.. ليكن ذلك مفهوماً.
بسرعة يرد عم ناصر.
- يا بشمهندس، أنا رجل حار الدم، ولا أستطيع أن أسكت عن الخطأ حين أراه.. مر رأى منكم منكراً فليغيره يا أخي.. أليس هذا ما يأمرنا به الدين؟
كيف أسكت وأنا أرى ذلك الغبي علاء يركب مسماراً في مكان مسمار آخر، أو ذلك المسطول هاني يضع الغلاف بالمقلوب.
ثم أني ماذا قلت؟
هل ضربت أحدهم أو سببته؟ أنا فقط ألفت انتباههم.. معذورون هم.. لم يتلقوا تعليماً لائقاً كالتعليم الذي تلقيناه.. التعليم هو السبب وراء كل ذلك.. نعم هو التعليم.
- بمناسبة التعليم، ما هو مؤهلك يا عم ناصر؟
تطفو انفراجة على أسارير عم ناصر وتتألق عيناه ويجيب في حماس.
- لا.. أيامنا كان الوضع مختلفاً. كانت الابتدائية تعادل الدكتوراه التي تدرسونها الآن.. كان اسمها "الكابول" .. يعني أنك يمكن أن تعمل بها وتصير موظفاً.. أما الآن يخرجون من الجامعة لا يفقهون شيئاً.
- يعني معك ابتدائية؟
- الابتدائية القديمة لها شأن آخر.. كنا ندرس ما يدرسونه الآن في الجامعة.
- لكن ملفك يقول أن مؤهلك هو محو الأمية.
يبتسم عم ناصر ابتسامة ممالئة مهزوزة، ويجيب بلين.
- لا يا بيه.. أنا دخلت المدرسة طبعاً وانتظمت بها وكنت من المتفوقين دائماً.. لكن أحد المدرسين كان يكرهني ويغار من تفوقي لأنني كنت أصوب له الأخطاء التي يقع فيها.. فتحايل وتواطئ حتى ادى بي إلى الرسوب في الصف الرابع.. فلما رأى أبي -رحمه الله وسامحه- أني رسبت، ظن أن لا مستقبل لي بالتعليم..
أما شهادة محو الأمية تلك فنصحني بها رؤوف ابن عمي .. قال أنها ستنفعني يوماً ما.. وها قد نفعتني الآن..
ولكن تصور أني أديت الامتحان دون الحاجة إلى دراسة.. بينما سليم وصبري ومحمد السباك حضروا صفوف تعليمية ورسبوا مرتين حتى أخذوها في النهاية بالغش.
- تمام .. تمام.. بالأمس سألت المهندس عماد عن المتسببين في المنتجات المعيبة فوجدت أنك مثلك مثلهم.. تخرج من تحت يديك أخطاء كثيرة.
تجحظ عينا عم ناصر ويحاول مقاطعة المهندس
- غير صحيح.. إنها أخطا..
يشير إليه المهندس بيده ليتوقف عن التبرير، ويستكمل كلامه.
- لم أستدعك للكلام عن أخطائك التي تتسبب في خروج منتجات معيبة .. ذكرت ذلك فقط لتعلم أنك مثلك مثلهم في الأخطاء.. فقط أريد منك أن تتعهد لي الآن أنك ستهتم بعملك أنت فقط، ولن تحاول تصويب أخطاء الآخرين وإثارة الجلبة في خط الإنتاج.. تلتزم بعملك وتترك الدور الرقابي لمشرف الخط فهذا عمله.. تعهد لي الآن أنك لن توبخ أحداً ولن تصحح لأحد.
يبدو الغيظ على وجه عم ناصر.
- مشرف الجودة هذا لا يفقه أي شيئ.. سلني أنا، إنه مثلهم تماماً.. ثم إن إيهاب هذا هو ابن أخيه.. هل تراه يوبخ ابن أخيه؟
كيف تطالبني بالسكوت عن الحق.. هل هذا هو جزاء حرصي على المصلحة؟
- أرجوك للمرة الأخيرة.. توقف عن الجدال وتعهد لي بأنك ستهتم بعملك فقط وتترك عمل الآخرين لهم.. وإلا اضطررت لخصم أسبوع من راتبك.. هل تفهمني؟
تكسو الدهشة والحنق وجه عم ناصر.. وترتجف شفتاه.
- خصم لي أنا؟ خصم لمن يحافظ على مصلحة المصنع بينما هؤلاء الأوغاد لم يعاقبهم أحد؟ لا حول ولا قوة إلا بالله..
يستمر في الحوقلة والاستغفار ويتمتم بصوت خفيض لا يسمعه المهندس
- كلكم حمير.. الحمير يحبون بعضهم ويكرهون النابهين.. لابد أن إيهاب يحضر له الحشيش... لا حول ولا قوة إلا بالله
يضرب كفاً بكف.
- هل تتعهد أم لا؟ لست متفرغاً لهذا الأمر طول اليوم.
يزجره المهندس بغضب باد.
يجيب عم ناصر باستكانة
- أتعهد يا بشمهندس.. لكن لست مسئولاً إذا تضاعفت نسبة المنتاجات المعيبة .. ولتعلم أني لو رأيت أولئك المساطيل يحرقون المصنع لما طرف لي جفن طالما أن الامر كذلك.. خصم! لا حول ولا قوة إلا بالله.
- حسنا يمكنك الانصراف الآن يا عم ناصر.. عد إلى عملك.
يقولها المهندس ويأخذ نفساً عميقاً كأنما دفع ثقلاً عن صدره.
يرفع ناصر يده اليمنى بإشارة من قبيل التحية التي يؤديها المواطنون للمسئولين، وينصرف متمتماً بعبارات غير مفهومة مفادها أن الجميع قد صاروا حميراً، ولم يبق في العالم آدميون أسوياء قط.
تعليقات
إرسال تعليق