قال صديقي؛ إنهم أوغاد، استعماريون، مصاصو دماء، أكلة لحوم بشر. لكنهم يظهرون في الأخبار والأعمال الفنية وكأنهم قديسين. وأحيانًا ينطلي علي الأمر وأنسجم، وأصدق لدقيقة أنهم ذوو مرؤة وإنسانية، وأنسى أفعالهم اللاإنسانية المقيتة.
ولو تركته لاسترسل، وقال وقال.
لكنني استوقفته بسؤال، إذا كنا نراهم هكذا؛ فكيف يروننا؟
بدت محاولة تخيل أو تخمين كيف يرانا الآخر عسيرة للغاية، حتى ظننت أن العرق سيتسرب من جبينه منفلتًا للأسفل ليمتزج بعضه بعينيه الزائغتين ليحرقهما فيزيده فوق الحيرة والارتباك ألمًا وضجرا. لكن العرق لم يتسرب من جبينه -ولله الحمد- إلا عينيه ظلتا تبحثان عن شيءٍ ما في أركان الغرفة حتى كاد بياضهما يصيبه الاحمرار.
ما عايشه صديقي هو ما نعايشه جميعًا عندما نفعل شيء ما لأول مرة. كذلك اليوم الذى حاولت فيه ركوب الدراجة لأول مرة، وذلك اليوم الذي بدأت فيه تعلم القيادة، أو اليوم الذي أمسكت فيه بالبندقية وحاولت إصابة هدف. كلها أيام متشابهة. بعد محاولة وأخرى صرت بارعًا في ركوب الدراجة، صرت تقود بذراعٍ واحدة، وبدون ذراع أيضًا. صرت تجيد قيادة السيارة، كما صرت ماهرًا بالرماية. كل ما تطلبه الأمر هو التدريب. لكن يبدو أن صديقي قد استهدف عضلة هجرت حتى ضمرت تقريبًا، وكان عليه أن يتحمل عناء المشي على عضلة ضامرة.
يقضي رواد الفضاء وقتًا طويلًا في ظروف انعدام الجاذبية، الأمر الذي يتسبب في انكماش وضمور المجموعات العضلية الرئيسية بالجسم، وبالأخص عضلات الساقين. لذلك؛ تراهم عند العودة للأرض لا يقوى أحدهم على حمل جسده. صديقي إذن كان يحتاج لمن يعينه على السير مثل رواد الفضاء إلى أن تسترد عضلات ساقيه نشاطها وقوتها .
بدا لي أن صديقي لم ينظر أبدًا من تلك الزاوية المغايرة التي طلبت منه النظر منها. هو اعتاد التمركز في الموضع المحدد الذي ارتضاه لنفسه أو ارتضاه المجتمع وثقافته السائدة له. وعندما فهمت هذا؛ أدركت أنني قد تجاوزت الحد المعقول فطلبت منه أن يحرك عنقه بزاوية شديدة التطرف بدلًا من التدرج والبدء بتمارين الإحماء.
ويبدو أن الرجل نفسه قد أدرك ما أدركت. أدرك أن عينيه قد قرتا على وضع معين حتى نسيتا الحركة والتجوال، وأن فقرات عنقه قد تشابكت وتكلست وصارت ثابتة على وضع واحد.
وإذا كان صاحبنا قد فشل في التموضع في زوايا أخرى، فهو على الأقل أدرك أو قل تذكر حقيقة وجود زوايا أخرى. كما أدرك أنه توقف منذ زمن عن رياضة النظر من زوايا مختلفة ووضع قدمه بحذاء المخالفين.
وتأملت في نفسي، إذا نظرت لإنسان من زاوية سفلية لرأيت لغدًا عظيمًا وأنفًا بارزًا وصورة مشوهة مخيفة. ولو نظرت له من زاوية علوية لرأيته قزمًا مضغوط الملامح. وكلا الصورتين مخالفان لما تراه في النظرة الفطرية المستقيمة التي تراه فيها إنسان بملامح عادية سوية وصورة بورتريه حسنة.
وقلت في نفسي، دبما المشكلة هي أننا نظر إليهم من زاوية سفلية فنراهم جبابرة مخيفين، عمالقة سفاحين. وينظروم هم إلينا من زاوية علوية فيروننا جرئان قذرة حقيرة لا تجيد سوى نهش الأقرام ولا تستحق سوى المبيدات أو ضربة الحذاء.
تعليقات
إرسال تعليق