كنت أظن أن الأيام الأولى هي الأصعب..
شعور أول ليلة أبيت فيها دون احتضانها.. الذراعان الفارغتان تبحثان عنها لا إرادياً.. ترتميان بحكم العادة إلى يمين المضجع فأنتبه أنها ليست هنا. ألتمس الوسادة فأحتضنها كيلا تظل الذراعان تبحثان عنها طول الليل.. أشعر بملمس الوسادة وبرودتها فأتذكر دفء حبيبتي.. أتذكر أنفاسها تضرب وجهي.. أتذكر العينان اللتان تنظران لي في الظلام، بارقتان، تنطقان بما لا ينطق به اللسان.. أتذكر أصابع يدها تتخللان شعر رأسي وتنسحب إلى وجهي تداعبه دون كلام.
شعور أول صباح أستيقظ فيه فلا أجدها بجانبي..أفتح عيناي فأنظر تلقائياً إلى يميني فأفاجئ أنها ليست هنا.. هل أستيقظت قبلي؟
ثم أنتبه قليلاً فأتذكر أنها ليست هنا.. بل أنا الذي لست هناك.
لم أعان أبداً من صعوبة في النوم في الأماكن الغريبة على.. لا أفتقد سريري ولا وسادتي.. لكن الوضع الآن يختلف؛ تعلقت بها فصار كل شيء في حياتي يدور حولها ويفقد معناه بدونها.
تكرر الأمر في الليلة الثانية وفي الصباح الثاني ولكن بشكل أقل حدة.. ظننت أن الألم سيقل بالتدريج؛ لكنني كنت واهمًا.
في الليالي الأولى كانت الذراعان تبحثان عنها.. فتذكراني بشعور احتضانها.. تمنحاني جزء من ذلك الشعور ولو بالوهم.. لكن عندما توقفت الذراعان عن ذلك البحث لم يعد هناك سوى الكآبة.. إدراكي أن هناك شهور أخرى لن أحتضنها فيهم.. شهور أخرى أحتضن الوسادة الباردة.. شهور أخرى لا أستيقظ لوجهها.
في الأيام الأولي كنت آكل نصف طبقي.. كنت بحكم العادة أتوهمها تجلس إلى مائدتي تناصفني طعامي.. الآن آكل طبقى كله.. وأتذكر أنني لشهور أخرى سآكل طعامي بدونها... لشهور أخرى سآكل طبقى كله..
في الأيام الأولي كنت فرحًا بالمنزل الجميل الذي أقطن فيه، وبالحي الراقي وبأضواء المدينة البديعة... منزل أجمل من منزلي في حي ومدينة أجمل من حيي ومدينتي.. شيء مبهج..
لكن بمضي الأيام الأولى انطفئت تلك البهجة؛ وحلت الكآبة محلها.. إنه منزل ليست فيه.
إنه منزل أجلس فيه على أريكة بديعة لكنها ليست بجواري.
أريكتي الرخيصة أجمل منها .. حين أعود من عملي منهك محمل بالمتاعب.. تثقل رأسي وكاهلي الأفكار.. أجلس على الأريكة إلى جوارها فألقي برأسي على صدرها.. يتسلل التعب وتتسلل الأفكار منسحبة..
أين لي بتلك الأريكة الآن؟
جالسًا على الأريكة أفتح التلفاز.. هو أكبر من تلفازنا.. ألوانه أجمل وصوته أنقى.. أحول إلى قناة الأخبار.. أتذكر لو أنك كنت هنا لكنت الآن تشاكسيني.. تسخرين من مزاجي الغريب.. تحاولين اختطاف جهاز التحكم من يدي لتغيير القناة..
أنا هنا الآن حيث لا تستطيعين اختطاف جهاز التحكم.. لكنني أسمع بلا أذن. أغير القناة إلى برنامج الطهو الذي تتابعينه.. ترد بذهني فكرة أنك قد تكون تشاهدين نفس البرنامج الآن.. تروق لي الفكرة وأندمج في المتابعة..
حبيبتي.. رغم كل ذلك الألم الذي سببه لي الفراق إلا أنني أحمد له أنه جعلني أدرك قيمة النعم التي كنت أحيا فيها غير مدرك لقيمتها..
نعمة الارتماء على صدرك بعد يوم عمل شاق.. نعمة مشاركتك الطعام.. النوم إلى جوارك والاسيقاظ لوجهك.. المشي معك في الشارع والتنزه معك في العطلات.. حديث الوسادة الذي يقصر حيناً ويطول أحيانًا.. ثورتك على حينًا لأني نسيت أمر ما مرة أخرى.. ورفقك بي وحنانك أحيانًا بسبب أو بدون سبب.
نعمة الارتماء على صدرك بعد يوم عمل شاق.. نعمة مشاركتك الطعام.. النوم إلى جوارك والاسيقاظ لوجهك.. المشي معك في الشارع والتنزه معك في العطلات.. حديث الوسادة الذي يقصر حيناً ويطول أحيانًا.. ثورتك على حينًا لأني نسيت أمر ما مرة أخرى.. ورفقك بي وحنانك أحيانًا بسبب أو بدون سبب.
أدركت الآن أن البيت هو أنت .. ليس الأثاث والجدران.
واليوم أعيش على ذلك الترقب.. ولا أرى عد الأيام والليالي أمرًا مبتذلًا الآن كما كنت أظنه .. نعم صرت أعد الأيام كأنني في سجن.. أو كمن ينتظر تسلم جائزة.. أو كأن الأيام عادت إلى حين كنت أنتظر عرسنا وأعد الأيام التي تفصلني عنه.
لي عودة يا حبيبتي.. قريبة في عدد الأيام؛ بعيدة في وقعها على.. لكنني حين أعود لن يكون كل شيءٍ كما كان.. لا.. سأشعر بالامتنان لكل لحظة أقضيها معك.
كأني بك يوم العودة ترتمين بحضني.. نتعانق طويلاً.. فيزول ألم الفراق كأن لم يكن.
سأبحث يومها أول ما سأبحث عن عيناك.. لأنظر فيهما في صمت طويل حتى أرتوي.
سأبحث أول ما سأبحث يومها عن صدرك الحنون ألقي عليه رأسي المتعبة لتتسلل منه الهموم والمتاعب..
وسأحمد الله أنني عدت إليك.
تعليقات
إرسال تعليق