التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ماءٌ طبيعي



لم يروا أبداً في حياتهم الماء النقي
فقط يدفعهم عطشهم إلى البركة الآسنة العكرة يتجرعون منها ما يروي عطشهم ثم يبصقون من أفواههم الطين 
حتى ذلك اليوم الذي عاد فيه ذاك الفتى مهرولاً يصيح في القبيلة

لقد وجدت ماء

نظر الجميع له كأبله
و ما حاجتنا إلى الماء و لدينا البركة؟

أنتم لا تفهمون لقد وجدت عين ماء
ماء حقيقي
لم أرى مثله من قبل
شفاف ليس له لون العكارة و الطين 
و لا رائحة العطن و لا طعم الأسن
لا تبصق بعد شربه
إنه ما نحتاج إليه
يروي العطش
لا أستطيع أن أصف لكم أبداً كيف كنت أشعر و أنا أشربه
فقد تعالوا معي لتروه

لن نشرب سوى من البركة
إنها ما عشنا عليه طوال أعمارنا و لم تصبنا بسوء
ما الذي يدرينا لعل ماؤك يقتلنا، أو يسلبنا بأسنا و قوتنا، أو يحيلنا مسوخاً

كيف هذا ألا ترون أن بركتكم آسنة راكدة الماء مليئة بالأوساخ و الطين ألا ترون أن بعض الحيوانات تبول بها حتى!
ألا تمتليء أفواهكم بالطين بعد أن تشربوا منها و تسعلون مراراً حتى تخرجوا طينها من أجوافكم؟
ألا تصبغ طعامكم بسواد طينها و تملؤه بعطن رائحتها و مرارة طعمها؟

لقد رأيت العين و شربت مائها  و عرفت أنه الماء الطبيعي الحقيقي الذي نحتاج إليه

أتعرفون..أظن أن البحيرة ربما كان ماؤها نقياً هكذا في بداية الأمر ثم انقطع عنها مصدرها و ركدت و اختلط بماؤها الطين و الأوساخ حتى صارت هكذا
و لذلك نشرب منها ليروي عطشنا ماؤها الأصلي
و لكننا بهذا نشرب مع مائها وسخها و لا نستطيع لهما فصلا
و الآن فقد عرفنا عين ماء طبيعي 
بدون وسخ أو طين
أفلا ننصرف إليه؟

في البداية لم يستمع للفتى سوى قلة قليلة قرروا تجربة الماء الجديد
أما باقي القبيلة فظل حنقهم يزداد عليه و على من ساروا معه
كيف يتركون بركتنا و يرتوون من عينهم؟
كيف لا يأبهون برفضنا لمائهم؟
ماذا لو ضرنا ماؤهم؟ أو أصابتنا عدوى أمراض جلبها لهم؟

و صاروا يؤذون أصحاب العين 

و لكن بمضي الأيام و دوران الزمان انقلب الوضع و صار الجميع تقريباً يأتون العين، و صارت البركة مهجورة لا يردها سوى بضع نفر من عجائز القبيلة الذين ظلوا على قديم عاداتهم. لكن بموتهم لم يبق أحد يشرب من البركة أبداً.

و بعد زمن جفت البركة تماماً، و لم يبق من أثرها سوى حفرة عميقة.. و تحولت البركة الآسنة إلى قصة تحكيها الجدات للصغار.

حتى جاء زمن ادعى فيه أحد الرجال أن إذابة بعض الطين في الماء يجعله يقوى البدن و يزيل الدرن و يقي من المرض!
فصاروا إذا مرض أحدهم.. سقوه ماءاً بالطين. و إذا أصاب الدرن أحدهم .. اغتسل بالماء و الطين.
ثم إنهم توسعوا في استخدام الماء الممزوج بالطين حتى صاروا يحنكون به المولود، و يسقون به العرسان، و يقدمونه للضيف، و صار ذوي السلطان من أهل القبيلة لا يشربون سوى الماء بالطين و اختصوا بتحضيره عمالاً يجلبون الماء من العين و الطين من قاع البحيرة ثم يخلطونهما خلطاً جيداً.

و لما كانت العين بعيدة و جلب الماء منها مجهد؛ فقد قرروا أن يجلبوا كميات كبيرة من ماء العين لتخزينه في البركة، و هكذا يصير الماء قريباً منهم و يصبح كله مخلوط بالطين بلا عناء، و لا تصير هناك حاجة لجلب الماء من العين إلا كل بضعة أسابيع.
و هكذا صاروا لا يشربون سوى ماء البركة العكرة العفنة!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كيف تحدد كونك مجنون أو عاقل؟

  هل أنت مجنون، أم عاقل؟ طبعاً عاقل؛ هل جننت؟ و ما أدراك أنك عاقل؟ كيف أبدو لك؟ دعك مني، ما دليلك على كونك عاقل? لا أتصرف كالمجانين. و هل يدرك المجنون أنه يتصرف كالمجانين؟ أقصد لا أرتدي ثياب ممزقة، و لا أضرب الناس، و لا أكلم نفسي، و لا أتخيل أشياء غير موجودة. و هل يدرك المجنون إتيانه لهذه التصرفات؟ حسناً، كيف تثبت أنت أنك عاقل؟ لا أستطيع أن أثبت ذلك؛ ليست هناك قواعد ثابتة لدى كل الكائنات تحكم على مدى منطقية الأحداث. في الحلم ترى أشياء عجيبة لا يمكن تصديقها مع ذلك لا تستغربها إطلاقاً و تتصرف معها بشكل طبيعي جداً كأنك لا ترى أي شيء غريب. كذلك المجنون يرى الأشياء وفق منطقه الخاص يرى الأشياء بعينه هو ليس كما تراها أنت و يتفاعل معها بمنطقه هو ليس بمنطقك أنت فيبدو لك مجنون. و المجنون بذلك هو من يختلف نمط إدراكه عن نمط إدراك بقية البشر العاديين، و يختلف منطق حكمه و بالتالي طريقة تفاعله عن البشر العاديين. كثيراً ما نسمع عبارة أن الجنون و العبقرية بينهما شعرة. ماذا لو كانت تلك الشعرة هي الفاصل الدقيق بين بين نهاية النمط البشري العادي في الادراك و التفكير و ما ورا

كيف نقيس مدى نجاح التعليم عبر الانترنت

       أحد مساوئ المقررات الهائلة المتاحة عبر الانترنت أنها ليست على درجة عالية من الفعالية، على الأقل اذا قيست الفعالية على أساس معدلات الإنجاز. فإتمام 20% من الطلاب لمقرر عبر الانترنت يعتبر انجاز هائل، و اتمام 10% أو أقل من الطلاب للمقرر هو المعدل العادي. لذا فإن المقررات المتاحة عبر الانترنت لا تزال في طور الهواية و لم تصل بعد لدرجة أن تكون بديل حقيقي للتعليم التقليدي. الداعمون للتعليم عبر الانترنت  يرون أن لغة الأرقام تصب في صالحه حيث أنه استطاع خلال فترة قصيرة أن يمهد للحدث الهائل المقبل على الانترنت –الجامعات. اذا حضر 100000 طالب مقرر مجاني عبر الانترنت و أتمه منهم 5000 فقط فإن الرقم ليس بهين. إن طبيعة المقررات المتاحة عبر الانترنت من حيث كونها رقمية و منشورة على الشبكة يجعل منها وسط مثالي لتقييم المحتوى. في وقت سابق هذا الأسبوع أعلنت جامعة سان خوسيه بولاية كاليفورنيا تعاقدها مع احد مطوري المقررات المتاحة عبر الانترنت يوداسيتي Udacity لتصميم ثلاث مقررات تجريبية. و قد ذكروا أن المؤسسة الوطنية للعلوم وافق

تعريف بكتب مصطفى محمود (1) عصر القرود

غلاف الكتاب كتاب خفيف و شيق، يقع في مائة صفحة. يصف فيه الكاتب عصرنا هذا- أفترض أنه مازال نفس العصر -  بأنه عصر القرود. عصر انخسف فيه الإنسان و انحط إلى أدنى درجات البهيمية عندما أهمل روحه و عقله، و صار عبداً لجسده و شهواته. فيتحدث عن المرأة المرغوبة أو المرأة "السكس" -كما يسميها في الكتاب- تلك المائلة المميلة التي حولت نفسها لوجبة تنادي الآكلين. ثم يعرض مظاهر قدوم عصر القرود من فساد الأرض و البحر و الجو و حتى الفضاء على يد الإنسان، علاوة عن الفساد الخلقي المصطبغ بصبغة عقلية كاذبة. و ينتقل الكاتب إلى انتقاد الفهم الشائع عن الحب و الغرام؛ و يقدم مفهومه الخاص للعلاقة السليمة بين الرجل و المرأة و التي يرى أنها تعتمد على السكن و المردة و الرحمة كما ذكر القرآن لا على الحب  و يعتبر الكاتب الحب صنم العصر الذي يطوف حوله العاشقين. حيث يرى أنه لا يشكل أساساً قويماً تنبني عليه علاقة. و يبين كيف أن الرجل الفاضل لا ينجرف في تيار العشق؛ و دلل على ذلك بدعاء يوسف لربه  (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ) [يوسف:33]  و كذلك برأي الإ