التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قامة في القمامة




لم تكن تلك أول مرة أرى فيها رجل يبحث في صندوق قمامة على بقايا طعام.. هو مشهد رأيته كثيراً، ورآه معظم المصريين..

نعم رأيت الأطفال يتجولون في الشوارع ينتقلون من صندوق للذي يليه، يفرغون محتوياته ثم يبدأون متضاحكين الفرز قطعة قطعة..ربما تشاجروا على قطعة مميزة..أو عثر أحدهم على كيس رقائق بطاطس ممتليء عن آخره فرزق الآخر منه..أو لربما وجد نظارة شمسية فقدت إحدى عدساتها، فتهلل وجهه للكنز الذي عثر عليه لتوه وارتداها و ظل يلهو متقافزاً، وصديقه يطلب منه أن يعطيها له كي يجربها.

نعم و رأيت ذلك العجوز في المترو يفعل نفس الشيء بسلال المحطة، لكن بنظرة مختلفة ..فيها الملل و العجز والصبر مجتمعون في تكشيرة تقول الكثير.

و تلك المرأة التي لم أر وجهها  حين انكفأت على كومة القمامة تقلب فيها دون طائل.
و غيرهم ..رجال و نساء و أطفال. 
ليسوا متسولين..كلا فالمتسول يأنف أن يفعل ذلك. لكنهم يأنفون أن يتسولوا. 

أما هذا الرجل فكان مختلفاً. كان يرتدي ثياب كلاسيكة متناسقة ونظيفة، لو رأيته لحسبته مدرس في مدرسة ابتدائية، أو محاسب في إحدى المصالح الحكومية. ليس هذا هو الشيء الملفت فيه. الغريب حقاً هو وجهه.
كان عليه تعبير فريد للغاية.
مازلت أتذكره رغم مرور شهور.
أتذكر حين رفع قامته ممسكا برغيف ينظر إليه كأنما يتفحصه.
لم يكن مرتبكاً أو خائفاً من حرج اجتماعي.
كما لم يكن حزيناً على حاله، و ما فعلت به الحياة.
 كان على وجهه تعبير هاديء للغاية.. كان وجهه يتحدث بصوت خفيض منتظم و يقول ..لا آبه لأي شيء..
لم يعد أي شيء يهم أبداً..
علي أن أعود برغيف إلى ذلك الذي يتضور جوعاً..
ليذهب الجميع إلى الجحيم.
لا يعني شكلي أمام الناس شيئاً.
بل لا يعني الناس شيئا..
ليس هناك ناس.
أنا لا أراهم حقاً، لا أدعي ذلك. 
..........
حقاً لم يكن يرى أحد حوله.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كيف تحدد كونك مجنون أو عاقل؟

  هل أنت مجنون، أم عاقل؟ طبعاً عاقل؛ هل جننت؟ و ما أدراك أنك عاقل؟ كيف أبدو لك؟ دعك مني، ما دليلك على كونك عاقل? لا أتصرف كالمجانين. و هل يدرك المجنون أنه يتصرف كالمجانين؟ أقصد لا أرتدي ثياب ممزقة، و لا أضرب الناس، و لا أكلم نفسي، و لا أتخيل أشياء غير موجودة. و هل يدرك المجنون إتيانه لهذه التصرفات؟ حسناً، كيف تثبت أنت أنك عاقل؟ لا أستطيع أن أثبت ذلك؛ ليست هناك قواعد ثابتة لدى كل الكائنات تحكم على مدى منطقية الأحداث. في الحلم ترى أشياء عجيبة لا يمكن تصديقها مع ذلك لا تستغربها إطلاقاً و تتصرف معها بشكل طبيعي جداً كأنك لا ترى أي شيء غريب. كذلك المجنون يرى الأشياء وفق منطقه الخاص يرى الأشياء بعينه هو ليس كما تراها أنت و يتفاعل معها بمنطقه هو ليس بمنطقك أنت فيبدو لك مجنون. و المجنون بذلك هو من يختلف نمط إدراكه عن نمط إدراك بقية البشر العاديين، و يختلف منطق حكمه و بالتالي طريقة تفاعله عن البشر العاديين. كثيراً ما نسمع عبارة أن الجنون و العبقرية بينهما شعرة. ماذا لو كانت تلك الشعرة هي الفاصل الدقيق بين بين نهاية النمط البشري العادي في الادراك و التفكير و ما ورا

كيف نقيس مدى نجاح التعليم عبر الانترنت

       أحد مساوئ المقررات الهائلة المتاحة عبر الانترنت أنها ليست على درجة عالية من الفعالية، على الأقل اذا قيست الفعالية على أساس معدلات الإنجاز. فإتمام 20% من الطلاب لمقرر عبر الانترنت يعتبر انجاز هائل، و اتمام 10% أو أقل من الطلاب للمقرر هو المعدل العادي. لذا فإن المقررات المتاحة عبر الانترنت لا تزال في طور الهواية و لم تصل بعد لدرجة أن تكون بديل حقيقي للتعليم التقليدي. الداعمون للتعليم عبر الانترنت  يرون أن لغة الأرقام تصب في صالحه حيث أنه استطاع خلال فترة قصيرة أن يمهد للحدث الهائل المقبل على الانترنت –الجامعات. اذا حضر 100000 طالب مقرر مجاني عبر الانترنت و أتمه منهم 5000 فقط فإن الرقم ليس بهين. إن طبيعة المقررات المتاحة عبر الانترنت من حيث كونها رقمية و منشورة على الشبكة يجعل منها وسط مثالي لتقييم المحتوى. في وقت سابق هذا الأسبوع أعلنت جامعة سان خوسيه بولاية كاليفورنيا تعاقدها مع احد مطوري المقررات المتاحة عبر الانترنت يوداسيتي Udacity لتصميم ثلاث مقررات تجريبية. و قد ذكروا أن المؤسسة الوطنية للعلوم وافق

تعريف بكتب مصطفى محمود (1) عصر القرود

غلاف الكتاب كتاب خفيف و شيق، يقع في مائة صفحة. يصف فيه الكاتب عصرنا هذا- أفترض أنه مازال نفس العصر -  بأنه عصر القرود. عصر انخسف فيه الإنسان و انحط إلى أدنى درجات البهيمية عندما أهمل روحه و عقله، و صار عبداً لجسده و شهواته. فيتحدث عن المرأة المرغوبة أو المرأة "السكس" -كما يسميها في الكتاب- تلك المائلة المميلة التي حولت نفسها لوجبة تنادي الآكلين. ثم يعرض مظاهر قدوم عصر القرود من فساد الأرض و البحر و الجو و حتى الفضاء على يد الإنسان، علاوة عن الفساد الخلقي المصطبغ بصبغة عقلية كاذبة. و ينتقل الكاتب إلى انتقاد الفهم الشائع عن الحب و الغرام؛ و يقدم مفهومه الخاص للعلاقة السليمة بين الرجل و المرأة و التي يرى أنها تعتمد على السكن و المردة و الرحمة كما ذكر القرآن لا على الحب  و يعتبر الكاتب الحب صنم العصر الذي يطوف حوله العاشقين. حيث يرى أنه لا يشكل أساساً قويماً تنبني عليه علاقة. و يبين كيف أن الرجل الفاضل لا ينجرف في تيار العشق؛ و دلل على ذلك بدعاء يوسف لربه  (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ) [يوسف:33]  و كذلك برأي الإ