التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ماذا تريد؟



الإنسان ساعة المنى والحلم يطمح في كل شيء. يحلم أن يحصد مال الدنيا ومتعها، يتزوج أجمل النساء، يسكن أبهى القصور، يصاحب علية القوم، يتبوء رفيع المكانات والمناصب، يكون صاحب رأي مسموع. تارةً أخرى يحلم أن يرضي ضميره ويشبع روحه بأن يؤدي المتطلبات الروحية والدينية، يشبعها ويزيد، يحفظ القرءان، يدرس العلوم الدينية، يجتهد في العبادات فروضها ونوافلها، يسعى في الخيرات، ينفق من ماله حتى يفوق أكابر الباذلين، وأكثر وأكثر. تارة أخرى يحلم أن يرى نفسه يغير العالم بعمله، كأن ينتج من الاختراعات ما يبهر البشر ويغير حياتهم ويحيل العالم إلى مكان أفضل، أو ينتج عملاً أدبياً أو فنياً تتحاكى به الأجيال ويكون له أثر عظيم وتأثير بليغ في وجدان البشر أجمعين.
وهكذا، لا يسأم الإنسان من دعاء الخير أبداً. فهو يريد كل شيء، يريد الأفضل والأكمل في كل الاتجاهات. هذا شيء راسخ في وجداننا، في أعماق نفوسنا، راسخ في لا وعينا. لكنك إذا ما سألت جارك، أباك، أخاك، صديقك عما يريد أو يريدون في هذه الحياة، فإنه سيجيبك بأن جل ما يريده هو السلامة والستر!
كيف يكون هذا؟ وما مصدر هذا التضارب بين منى النفس الخفي، وبين ظاهر القول وظاهر الإرادة؟
ويبدو أن استكشاف هذا الأمر ليس باليسير أبداً، لكن لا بأس بالمحاولة.
يبدو للوهلة الأولى أن للأمر علاقة بثقافة المجتمع ومعتقده وهمته، وتفاعل الفرد مع هذه الثقافة. إذ تغرس ثقافتنا في وجدان الفرد قيم مؤداها أن الصلاح والنقاء مرتبطون لا محالة بقلة متاع الدنيا بين اليدين، إذ الناجح بالضرورة وصولي، والغني لص، والتقي داعر ذو عين خائنة، والحالم غر ساذج. والسلامة كل السلامة في أن تكون عادياً كما أواسط قومك، فخير الأمور الوسط، والعاديون هم أهل البلد، هم من رفضوا المفارقة إلى غرور الحياة الدنيا، هم ملح هذه الأرض، ثوبهم من ثوبنا. والحالمون السذج لن يفيقوا إلا عندما تذل أقدامهم فيسقطون من حالق أحلامهم، حينها يعرفون أي منقلب انقلبوا. حين لن يكون من نصيبهم سوى التعيير والتأنيب والسخرية، وأن تحكى قصص فشلهم في الآفاق لعلهم يكونوا عبرة لم اعتبر. عبرة لكل من يفكر في أن يخرج من الثوب، ويأخذه الطموح إلى غير المطروح.
تتفاعل هذه القيم المجتمعية بداخل الفرد فتشكل قوة نفسية اجتماعية تطرق أذن ذهنك بقوة كلما فكرت أن تطمح في تغيير، تقول لك ابق هنا، أنت لا تصعد علياء مجد وإنما حالق أهوال، لن تلبث أرضه تمور من تحت قدميك فتتردى هاوياً إلى أرضك الأصلية بقوة الجاذبية، تعود إلى أرضك مرغماً ومهشماً. فالسلامة السلامة.
ترى هنا قوتان تعتملان بنفسك، وأيهما يغلب؟ أنت من تحدد. ولعلنا هنا نتذكر من تراث الهنود الحمر قصة الذئبين الذين يتصارعان داخل كل إنسان، أحدهما هو الخير والآخر هو الشر. تقول لنا القصة أن النصر حليف الذئب الذي تطعمه. وأظن أن نفس الأمر ينطبق على كل القوى والقيم المتعاركة بداخل الإنسان، وينطبق على هذا الموقف الذي نحاول معالجته. فعند معظم الناس ينتصر ذئب توخي السلامة والسير مع القطيع، إذ غذاؤه وفير. وأكبر مغذياته هو الخوف من الفشل الذي قد يواجه من يحاولون التغيير ومن يجرؤون على الطموح. إذ الأمر متعلق بالكرامة. فأنا لو أعلنت أنني أريد كذا وكذا، أنا ألزم نفسي بذلك ولابد أن أحققه وإلا لازمتني وصمة الفشل، وصرت مثالاً يستخدمه الداعون إلى إيثار السلامة. فالأحوط إذن ألا أحاول وألا أجرب.
لكن المختلفون الحالمون يعرفون كيف يوفرون الطعام الأوفر لذئب التغيير والأحلام ليضمنوا له النصر. يعرفون أن الأمل غذاء مبارك، وأن الخوف من الفشل ليس له مكان بين جوانحهم، فلو خاف الإنسان من الفشل لما كانت البشرية صنعت أي حضارة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كيف تحدد كونك مجنون أو عاقل؟

  هل أنت مجنون، أم عاقل؟ طبعاً عاقل؛ هل جننت؟ و ما أدراك أنك عاقل؟ كيف أبدو لك؟ دعك مني، ما دليلك على كونك عاقل? لا أتصرف كالمجانين. و هل يدرك المجنون أنه يتصرف كالمجانين؟ أقصد لا أرتدي ثياب ممزقة، و لا أضرب الناس، و لا أكلم نفسي، و لا أتخيل أشياء غير موجودة. و هل يدرك المجنون إتيانه لهذه التصرفات؟ حسناً، كيف تثبت أنت أنك عاقل؟ لا أستطيع أن أثبت ذلك؛ ليست هناك قواعد ثابتة لدى كل الكائنات تحكم على مدى منطقية الأحداث. في الحلم ترى أشياء عجيبة لا يمكن تصديقها مع ذلك لا تستغربها إطلاقاً و تتصرف معها بشكل طبيعي جداً كأنك لا ترى أي شيء غريب. كذلك المجنون يرى الأشياء وفق منطقه الخاص يرى الأشياء بعينه هو ليس كما تراها أنت و يتفاعل معها بمنطقه هو ليس بمنطقك أنت فيبدو لك مجنون. و المجنون بذلك هو من يختلف نمط إدراكه عن نمط إدراك بقية البشر العاديين، و يختلف منطق حكمه و بالتالي طريقة تفاعله عن البشر العاديين. كثيراً ما نسمع عبارة أن الجنون و العبقرية بينهما شعرة. ماذا لو كانت تلك الشعرة هي الفاصل الدقيق بين بين نهاية النمط البشري العادي في الادراك و التفكير و ما ورا

كيف نقيس مدى نجاح التعليم عبر الانترنت

       أحد مساوئ المقررات الهائلة المتاحة عبر الانترنت أنها ليست على درجة عالية من الفعالية، على الأقل اذا قيست الفعالية على أساس معدلات الإنجاز. فإتمام 20% من الطلاب لمقرر عبر الانترنت يعتبر انجاز هائل، و اتمام 10% أو أقل من الطلاب للمقرر هو المعدل العادي. لذا فإن المقررات المتاحة عبر الانترنت لا تزال في طور الهواية و لم تصل بعد لدرجة أن تكون بديل حقيقي للتعليم التقليدي. الداعمون للتعليم عبر الانترنت  يرون أن لغة الأرقام تصب في صالحه حيث أنه استطاع خلال فترة قصيرة أن يمهد للحدث الهائل المقبل على الانترنت –الجامعات. اذا حضر 100000 طالب مقرر مجاني عبر الانترنت و أتمه منهم 5000 فقط فإن الرقم ليس بهين. إن طبيعة المقررات المتاحة عبر الانترنت من حيث كونها رقمية و منشورة على الشبكة يجعل منها وسط مثالي لتقييم المحتوى. في وقت سابق هذا الأسبوع أعلنت جامعة سان خوسيه بولاية كاليفورنيا تعاقدها مع احد مطوري المقررات المتاحة عبر الانترنت يوداسيتي Udacity لتصميم ثلاث مقررات تجريبية. و قد ذكروا أن المؤسسة الوطنية للعلوم وافق

تعريف بكتب مصطفى محمود (1) عصر القرود

غلاف الكتاب كتاب خفيف و شيق، يقع في مائة صفحة. يصف فيه الكاتب عصرنا هذا- أفترض أنه مازال نفس العصر -  بأنه عصر القرود. عصر انخسف فيه الإنسان و انحط إلى أدنى درجات البهيمية عندما أهمل روحه و عقله، و صار عبداً لجسده و شهواته. فيتحدث عن المرأة المرغوبة أو المرأة "السكس" -كما يسميها في الكتاب- تلك المائلة المميلة التي حولت نفسها لوجبة تنادي الآكلين. ثم يعرض مظاهر قدوم عصر القرود من فساد الأرض و البحر و الجو و حتى الفضاء على يد الإنسان، علاوة عن الفساد الخلقي المصطبغ بصبغة عقلية كاذبة. و ينتقل الكاتب إلى انتقاد الفهم الشائع عن الحب و الغرام؛ و يقدم مفهومه الخاص للعلاقة السليمة بين الرجل و المرأة و التي يرى أنها تعتمد على السكن و المردة و الرحمة كما ذكر القرآن لا على الحب  و يعتبر الكاتب الحب صنم العصر الذي يطوف حوله العاشقين. حيث يرى أنه لا يشكل أساساً قويماً تنبني عليه علاقة. و يبين كيف أن الرجل الفاضل لا ينجرف في تيار العشق؛ و دلل على ذلك بدعاء يوسف لربه  (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ) [يوسف:33]  و كذلك برأي الإ