التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الكابول

production line



- يا عم ناصر.. هذه هي المرة الثالثة التي يتعطل فيها خط الإنتاج بسببك. لم أعد أفهم .. هل أنت عامل على الخط، أم أن شخصاً ما قد أولى إليك مسئولية تعطيله طوال الوقت!

يرفع عم ناصر حاجبيه لأعلى حتى ينضغط جلد جبهته مشكلاً خطوطاً عرضية، ثم يحرك رأسه وعينيه كأنما يبحث عن شيء ما في الغرفة، ثم يركز بصره على المهندس فيما عينيه بارزتان وهو يجيبه.

- يا بشمهندس.. هل أنا مخطئ لحرصي على مصلحة المصنع؟ وكيف لي أن أسكت عن الحال المائل؟ هؤلاء العمال لا يفقهون شيئاً على الإطلاق.. ولو كان الأمر بيدي لرفتهم فوراً بلا تردد.

- دعنا من العمال، أنا أتحدث عنك أنت .. لم تحرص على تعطيل الإنتاج باستمرار كأن هذا هو عملك الوحيد؟

يرفع عم ناصر إحدى يديه ليحك ما تبقى من شعر رأسه، ويجيب بنفاذ صبر.

- كل ما في الأمر أنني حريص على المصنع وعلى جودة المنتج، هؤلاء الجهلة لا يفتأون يتسببون في خروج منتجات معيبة، وكل هذا يتراكم فوق رأس المصنع.
لقد رأيت بعيني كيف يعيد المهندس عماد ربع المنتجات التي تخرج من الخط لأنها معيبة، وكل هذا بسبب هؤلاء الأوغاد المساطيل الذين قضت عليهم المخدرات والجري وراء الفتيات.. إن أحدهم لا يبدأ يومه إلا بتعاطي الترامادول، ولا ينهيه إلا بسيحارة محشوة بالبانجو أو الحشيش.. هل تتوقع من مثل هؤلاء إنتاج؟.. إنه جيل لا يعلم بحاله سوى الله.. اللهم احفظنا.

يعاود المهندس سؤاله بنفاذ صبر باد ومحاولة لكظم الغيظ.

- يا عم صابر.. أنت رجل كبير وأنا أحترمك وأقدرك.. لكن من قال لك أنك مسئول عن العمال الآخرين.. أنت مسئول عن عملك أنت فقط.. ليكن ذلك مفهوماً.

بسرعة يرد عم ناصر.

- يا بشمهندس، أنا رجل حار الدم، ولا أستطيع أن أسكت عن الخطأ حين أراه.. مر رأى منكم منكراً فليغيره يا أخي.. أليس هذا ما يأمرنا به الدين؟
كيف أسكت وأنا أرى ذلك الغبي علاء يركب مسماراً في مكان مسمار آخر، أو ذلك المسطول هاني يضع الغلاف بالمقلوب.
ثم أني ماذا قلت؟
هل ضربت أحدهم أو سببته؟ أنا فقط ألفت انتباههم.. معذورون هم.. لم يتلقوا تعليماً لائقاً كالتعليم الذي تلقيناه.. التعليم هو السبب وراء كل ذلك.. نعم هو التعليم.

- بمناسبة التعليم، ما هو مؤهلك يا عم ناصر؟

تطفو انفراجة على أسارير عم ناصر وتتألق عيناه ويجيب في حماس.

- لا.. أيامنا كان الوضع مختلفاً. كانت الابتدائية تعادل الدكتوراه التي تدرسونها الآن.. كان اسمها "الكابول" .. يعني أنك يمكن أن تعمل بها وتصير موظفاً.. أما الآن يخرجون من الجامعة لا يفقهون شيئاً.

- يعني معك ابتدائية؟

- الابتدائية القديمة لها شأن آخر.. كنا ندرس ما يدرسونه الآن في الجامعة.

- لكن ملفك يقول أن مؤهلك هو محو الأمية.

يبتسم عم ناصر ابتسامة ممالئة مهزوزة، ويجيب بلين.

- لا يا بيه.. أنا دخلت المدرسة طبعاً وانتظمت بها وكنت من المتفوقين دائماً.. لكن أحد المدرسين كان يكرهني ويغار من تفوقي لأنني كنت أصوب له الأخطاء التي يقع فيها.. فتحايل وتواطئ حتى ادى بي إلى الرسوب في الصف الرابع.. فلما رأى أبي -رحمه الله وسامحه- أني رسبت، ظن أن لا مستقبل لي بالتعليم..
أما شهادة محو الأمية تلك فنصحني بها رؤوف ابن عمي .. قال أنها ستنفعني يوماً ما.. وها قد نفعتني الآن..
ولكن تصور أني أديت الامتحان دون الحاجة إلى دراسة.. بينما سليم وصبري ومحمد السباك حضروا صفوف تعليمية ورسبوا مرتين حتى أخذوها في النهاية بالغش.

- تمام .. تمام.. بالأمس سألت المهندس عماد عن المتسببين في المنتجات المعيبة فوجدت أنك مثلك مثلهم.. تخرج من تحت يديك أخطاء كثيرة.

تجحظ عينا عم ناصر ويحاول مقاطعة المهندس

- غير صحيح.. إنها أخطا..

يشير إليه المهندس بيده ليتوقف عن التبرير، ويستكمل كلامه.

- لم أستدعك للكلام عن أخطائك التي تتسبب في خروج منتجات معيبة .. ذكرت ذلك فقط لتعلم أنك مثلك مثلهم في الأخطاء.. فقط أريد منك أن تتعهد لي الآن أنك ستهتم بعملك أنت فقط، ولن تحاول تصويب أخطاء الآخرين وإثارة الجلبة في خط الإنتاج.. تلتزم بعملك وتترك الدور الرقابي لمشرف الخط فهذا عمله.. تعهد لي الآن أنك لن توبخ أحداً ولن تصحح لأحد.

يبدو الغيظ على وجه عم ناصر.

- مشرف الجودة هذا لا يفقه أي شيئ.. سلني أنا، إنه مثلهم تماماً.. ثم إن إيهاب هذا هو ابن أخيه.. هل تراه يوبخ ابن أخيه؟
كيف تطالبني بالسكوت عن الحق.. هل هذا هو جزاء حرصي على المصلحة؟

- أرجوك للمرة الأخيرة.. توقف عن الجدال وتعهد لي بأنك ستهتم بعملك فقط وتترك عمل الآخرين لهم.. وإلا اضطررت لخصم أسبوع من راتبك.. هل تفهمني؟

تكسو الدهشة والحنق وجه عم ناصر.. وترتجف شفتاه.

- خصم لي أنا؟ خصم لمن يحافظ على مصلحة المصنع بينما هؤلاء الأوغاد لم يعاقبهم أحد؟ لا حول ولا قوة إلا بالله..

يستمر في الحوقلة والاستغفار ويتمتم بصوت خفيض لا يسمعه المهندس
- كلكم حمير.. الحمير يحبون بعضهم ويكرهون النابهين.. لابد أن إيهاب يحضر له الحشيش... لا حول ولا قوة إلا بالله
يضرب كفاً بكف.

- هل تتعهد أم لا؟ لست متفرغاً لهذا الأمر طول اليوم.
يزجره المهندس بغضب باد.

يجيب عم ناصر باستكانة
- أتعهد يا بشمهندس.. لكن لست مسئولاً إذا تضاعفت نسبة المنتاجات المعيبة .. ولتعلم أني لو رأيت أولئك المساطيل يحرقون المصنع لما طرف لي جفن طالما أن الامر كذلك.. خصم! لا حول ولا قوة إلا بالله.

- حسنا يمكنك الانصراف الآن يا عم ناصر.. عد إلى عملك.
يقولها المهندس ويأخذ نفساً عميقاً كأنما دفع ثقلاً عن صدره.

يرفع ناصر يده اليمنى بإشارة من قبيل التحية التي يؤديها المواطنون للمسئولين، وينصرف متمتماً بعبارات غير مفهومة مفادها أن الجميع قد صاروا حميراً، ولم يبق في العالم آدميون أسوياء قط.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كيف تحدد كونك مجنون أو عاقل؟

  هل أنت مجنون، أم عاقل؟ طبعاً عاقل؛ هل جننت؟ و ما أدراك أنك عاقل؟ كيف أبدو لك؟ دعك مني، ما دليلك على كونك عاقل? لا أتصرف كالمجانين. و هل يدرك المجنون أنه يتصرف كالمجانين؟ أقصد لا أرتدي ثياب ممزقة، و لا أضرب الناس، و لا أكلم نفسي، و لا أتخيل أشياء غير موجودة. و هل يدرك المجنون إتيانه لهذه التصرفات؟ حسناً، كيف تثبت أنت أنك عاقل؟ لا أستطيع أن أثبت ذلك؛ ليست هناك قواعد ثابتة لدى كل الكائنات تحكم على مدى منطقية الأحداث. في الحلم ترى أشياء عجيبة لا يمكن تصديقها مع ذلك لا تستغربها إطلاقاً و تتصرف معها بشكل طبيعي جداً كأنك لا ترى أي شيء غريب. كذلك المجنون يرى الأشياء وفق منطقه الخاص يرى الأشياء بعينه هو ليس كما تراها أنت و يتفاعل معها بمنطقه هو ليس بمنطقك أنت فيبدو لك مجنون. و المجنون بذلك هو من يختلف نمط إدراكه عن نمط إدراك بقية البشر العاديين، و يختلف منطق حكمه و بالتالي طريقة تفاعله عن البشر العاديين. كثيراً ما نسمع عبارة أن الجنون و العبقرية بينهما شعرة. ماذا لو كانت تلك الشعرة هي الفاصل الدقيق بين بين نهاية النمط البشري العادي في الادراك و التفكير و ما ورا

كيف نقيس مدى نجاح التعليم عبر الانترنت

       أحد مساوئ المقررات الهائلة المتاحة عبر الانترنت أنها ليست على درجة عالية من الفعالية، على الأقل اذا قيست الفعالية على أساس معدلات الإنجاز. فإتمام 20% من الطلاب لمقرر عبر الانترنت يعتبر انجاز هائل، و اتمام 10% أو أقل من الطلاب للمقرر هو المعدل العادي. لذا فإن المقررات المتاحة عبر الانترنت لا تزال في طور الهواية و لم تصل بعد لدرجة أن تكون بديل حقيقي للتعليم التقليدي. الداعمون للتعليم عبر الانترنت  يرون أن لغة الأرقام تصب في صالحه حيث أنه استطاع خلال فترة قصيرة أن يمهد للحدث الهائل المقبل على الانترنت –الجامعات. اذا حضر 100000 طالب مقرر مجاني عبر الانترنت و أتمه منهم 5000 فقط فإن الرقم ليس بهين. إن طبيعة المقررات المتاحة عبر الانترنت من حيث كونها رقمية و منشورة على الشبكة يجعل منها وسط مثالي لتقييم المحتوى. في وقت سابق هذا الأسبوع أعلنت جامعة سان خوسيه بولاية كاليفورنيا تعاقدها مع احد مطوري المقررات المتاحة عبر الانترنت يوداسيتي Udacity لتصميم ثلاث مقررات تجريبية. و قد ذكروا أن المؤسسة الوطنية للعلوم وافق

تعريف بكتب مصطفى محمود (1) عصر القرود

غلاف الكتاب كتاب خفيف و شيق، يقع في مائة صفحة. يصف فيه الكاتب عصرنا هذا- أفترض أنه مازال نفس العصر -  بأنه عصر القرود. عصر انخسف فيه الإنسان و انحط إلى أدنى درجات البهيمية عندما أهمل روحه و عقله، و صار عبداً لجسده و شهواته. فيتحدث عن المرأة المرغوبة أو المرأة "السكس" -كما يسميها في الكتاب- تلك المائلة المميلة التي حولت نفسها لوجبة تنادي الآكلين. ثم يعرض مظاهر قدوم عصر القرود من فساد الأرض و البحر و الجو و حتى الفضاء على يد الإنسان، علاوة عن الفساد الخلقي المصطبغ بصبغة عقلية كاذبة. و ينتقل الكاتب إلى انتقاد الفهم الشائع عن الحب و الغرام؛ و يقدم مفهومه الخاص للعلاقة السليمة بين الرجل و المرأة و التي يرى أنها تعتمد على السكن و المردة و الرحمة كما ذكر القرآن لا على الحب  و يعتبر الكاتب الحب صنم العصر الذي يطوف حوله العاشقين. حيث يرى أنه لا يشكل أساساً قويماً تنبني عليه علاقة. و يبين كيف أن الرجل الفاضل لا ينجرف في تيار العشق؛ و دلل على ذلك بدعاء يوسف لربه  (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ) [يوسف:33]  و كذلك برأي الإ